Aug 23, 2016

كيف تتسلل إتيل عدنان إلى جنتها الضائعة؟


لو تكتب اسم إتيل عدنان في محرك غوغل للصور، سواء بأحرف عربية أو لاتينية، لن تظهر أمامك أي صور للشاعرة في شبابها. جرب مثلاً أن تكتب «إتيل عدنان شابة» بالإنكليزية أو الفرنسية، ستجد أن كل الصور لذات العجوز الخالدة بابتسامتها الصادقة، وهي تسترق نظرة نحو الكاميرا. هنالك صورة بالأبيض والأسود لإتيل وهي تغطي وجهها بوردة وكأنها طفلة عثمانية تتهيأ لاختراق الزمن. 

كلما سُئلت إتيل عن اللغة العربية، تعود بقصتها إلى بيت والديها في بيروت. تحكي عن أمها اليونانية التي جاء لقاؤها بزوجها السوري عبر اللغة التركية، فقد ولد والد إتيل في دمشق والتحق بالجيش العثماني حيث تعلم الألمانية والفرنسية حتى استقر بعائلته في بيروت. تجتهد إتيل في تفكيك سؤال اللغة الذي سيلعب دوراً محورياً في منجزها الأدبي والفني الذي تجاوز الستين عاماً حتى الآن. في شهادة مكتوبة تستدعي محاولات والدها تعليمها العربية فقد كانت اللغات في حياتها عديدة ومتغيرة حسب المكان: التركية واليونانية في البيت، الفرنسية في المدرسة، والعربية في الشارع! تقول إتيل أن والدها تحدث بالتركية مع أمها وفي المعركة كان يكتب الرسائل لها بفرنسية رومانسية. هكذا إذن، تصبح الفرنسية لغة المعركة التي ستخوض بها إتيل العالم. 


في حوار أجرته الناقدة الهولندية منيكي شيبر عام ١٩٨٥، تصف إتيل اللغة العربية باعتبارها «جنتها الضائعة إلى الأبد».لاحقاً تستمر إتيل باستخدام الوصف ذاتهإلا أنها تتصالح مع حالة القطيعة شيئاً فشيئاً. كثيراً ما تتكلم عن العربية بمشاعر التقصير والذنب ولربما حتى التبرير، من دون أن تنسى التذكير بمحاولاتها العديدة للتسلل إلى هذه اللغة الجميلة – كما تصفها مراراً- بطرق فلسفية تزعزع ضرورة اللغة وأصوليتها بالنسبة للأدب والأديب. تشير إتيل في الحوار المذكور إلى عبارة شاعر سوري عن كونها أهم شاعرة عربية منذ الخنساء، لتجد فيها دلالة على مكانها الطبيعي في الأدب العربي. تعترف بخوفها من أن تكون عربيتها الأدبية مشروطة باستحالتها اللغوية، أو أن يتم تجريدها من مصنفها كـ «شاعرة عربية».

لم تدخل إتيل عدنان اللغة العربية من أي باب، فكان أول مترجميها هم محدثو الشعر العربي من أمثال يوسف الخال وسعدي يوسف وسركون بولص. كنت قد تعرفت على قصائد إتيل من خلال ترجمة سركون «هناك: في ضياء وظلمة النفس والآخر» الصادرة عام 2000 عن دار الجمل. وكانت تلك صدفة من بين الصدف الجميلة التي يضعها سركون في طريق الواحد. انطلقت في تتبع أثرها لأجد عملين آخرين لها بالعربية عن دار لبنانية اسمها «أمواج» لا أعلم على أي شاطئ انتهى بها الأمر. وجدت في قصائدها خفة شعرية ومرونة خلابة في التعامل مع المكان. لم أكن أعرف الإنكليزية وقتها ولم تكن الإنترنت معبأة بالكنوز مثلما هي الآن. لكني اليوم أجد نفسي أبحث عن إتيل مرة أخرى لقراءة احتمالات اللغة التي يتأرجح الأديب بينها كيفما تأخذه الأمكنة. 

التقى سركون بإتيل في كاليفورنيا حينما وصل الشاعر في سن الخامسة والعشرين إلى مدينة سان فرانسيسكو- المكان الذي صارت فيه إتيل شاعرة أمريكية ضمن حراك الشعراء ضد حرب فيتنام. كان الانتقال إلى أمريكا مثل «زلزال صغير» فقد جعل منها كاتبة مسيسة بحبال طويلة تصلها بالعالم. لم يشغلها حراك فيتنام عن العالم العربي وبالأخص الثورة الجزائرية التي تعد لحظة محورية بالنسبة لجيلها من الكتاب الفرانكفونيين. خلقت الثورة الجزائرية عند إتيل حالة صدامية مع اللغة الفرنسية. كان الكتاب وقتها يفتشون عن طرق لـ«العودة» إلى لغاتهم الأم، فجرب الأدباء الجزائريون الكتابة بالفصحى، ثم ذهب الطموح ببعضهم للكتابة بالدارجة، أو حتى هجران الأدب بأكمله. لكن إتيل، مثل آسيا جبار، بحثت عن طريقة للتصالح مع الفرنسية. لم تعرف آسيا طريقاً إلى العربية، فاختفت عن الكتابة لسنوات وراحت تصنع أفلاماً وثائقية في الجبال، حتى استنفدت كل صمتها قبل أن تعود مرة أخرى برواية «فنتازيا» التي تتعرض فيها لموضوع اللغة. أما إتيل فلم تذهب في صمتها بعيداً لأنها وجدت لغتها فيما سمته «الرسم بالعربية». كما أنها تفوقت على جيلها بتحررها الناجح من مركزية اللغة الفرنسية عبر الاتجاه غرباً إلى الإنكليزية. تصف إتيل اكتشافها الرسم كمثل «نافذة جانبية فُتحت يوم أضاعت الشمس مسارها». 

اكتشفت إتيل الرسم بالعربية من خلال فن الخط لتحدث فيه حركة تجديدية باستخدام خطها الركيك. تتذكر إتيل معجم اللغتين العربية-التركية الذي احتفظ به والدها من أيامه في الأكاديمية العسكرية وتمارين النسخ التي ظن أنها ستساعدها في تعلم العربية. ستتلبس الشاعرة تلك العلاقة الحميمية للنسّاخ باللغة برسمها قصائد من الشعر العربي الحديث تتماهى وخطوطها التجريدية. تشير إتيل إلى «صورية» اللغتين اليابانية والصينية التي أوحت لها بفكرة الرسم لخلق لغتها العربية والاقتراب خطوة باتجاه الشعر العربي الحديث. تقول: «لم أحاول قراءة القصائد التي اخترتها في لوحاتي واكتفيت بفهمي الغريب: القليل من هنا وهناك. مثل النظر من خلال حجاب أو مشاهدة منظر عبر شاشة. لكن الشاشة لا تمحو الصورة، بل تخفف من حدة معالمها وتجعلها أكثر غموضاً».وتجد إتيل أن عملها التجديدي في فن الخط مثال آخر على ارتباطها «بالمصير الثقافي للعرب بطرق غير مباشرة». 

خلال الحرب الأهلية، كتبت إتيل قصيدة مطولة بعنوان «القيامة العربية» أو «يوم القيامة العربي» كما ترجمها شوقي عبد الأمير عن الفرنسية (منشورات الصكار 1991). في هذا النص، تتنقل إتيل بين الشعر ورسوماتها الهيروغليفية في كل سطر لتكتب عن «بداية نهاية العالم». وبعدما صدرت النسخة الفرنسية، قامت بإعادة كتابة القصيدة بالإنكليزية لتصدر عن دار أبولو بريس في كاليفورنيا التي كانت قد أسستها مع حبيبتها النحاتة السورية سيمون فتّال. تعيش إتيل حالة دائمة من الترجمة: الشعر كترجمة للذات، الترجمة كولادة جديدة، والفن كترجمة للغة مفقودة. يجد «فيسلوف الكارثة» جلال توفيق في نص إتيل هذا «كتاباً عربياً» لأنه يبعث الروح في ما فُقد من تلك القيامة، بينما ترى هي أنه «عربي في منطقه لأنه ينزع نحو الملحمة من خلال إيقاع مشهدي خشبته بيروت وديكوره الكون، مثل أوبرا بين المجرة والمقبرة».

تأتي إتيل بإمكانية جديدة للأدب العربي، فهي تكرس مشروعها الشخصي لخدمة الثقافة العربية، من دون أن تحصد الألفة الكافية. يستعصي على الأدب العربي الحديث استيعاب أمثال إتيل وعبداللطيف اللعبي وآسيا جبار، خاصة أن هؤلاء ينتمون إلى عالم قديم- ما قبل كولونيالي حين لم تكن للدولة القومية أي معنى إلا فيما يتعلق بالامبراطوريات الأوروبية. كلما حاول أحدهم التعريف بإتيل بالعربية، تتغير جنسيتها وتتأكد أجنبيتها فمخيلتنا الملقنة لا تعرف الخروج بنا فوق الحدود واللغات كما تفعل إتيل. وبذا فإن هذه الطفلة العثمانية تزعزع جغرافيا الأدب العربي في حدوده الداخلية وطموحاته المحدودة نحو العالم. 

خلال نصف قرن من الكتابة والرسم، تعلمت إتيل أن اللغة الأم مستحيلة كاستحالة اللغة الأجنبية- مثلما يخبرنا دريدا في «أحادية لغة الآخر». وهذه الاستحالة هي مترجمة أصلاً عن استحالة الأمكنة، فعبر الكتابة بالفرنسية والإنكليزية تترجم الشاعرة المسافة التي تفصلها عن العالم العربي كموقع وفكرة. تجد إتيل أن الاجابة على سؤال اللغة تشبه «محاولة الإمساك بالأشعة المنعكسة»لكنها تجد في الشعر مكانها المضمون «فالشعراء متجذرون بعمق في اللغة، لكنهم أيضا يتجاوزونها». تقول «لطالما كنت ابنة اللحظة الراهنة والمكان الآني، بقيت خارج المكان وخارج اللغة، غريبة وأصيلة. طوال القرن الماضي، أخبرونا أن علينا البقاء وحيدين ومقطوعين، أن لا ننظر إلى الخلف، وأن نمضي قدماً حتى نغزو القمر،وهذا ما فعلت،هذا ما أفعله».

* القدس العربي

No comments:

Post a Comment